الاثنين، 14 يونيو 2010

تراث بغداد المعمارى.. شاهد على الحضارة


كتبت: ناهد نصر
يصدر عن دار نشر الجامعة الأمريكية قريباً الترجمة الإنجليزية لكتاب "الآرت ديكو فى التراث المعمارى ببغداد 1920-1950" عن النص الفرنسى الصادر عام 2008 للباحثة سيسيليا بيرى. ويبحث الكتاب فى 160 صفحة موضوعاً غير مطروق حول التراث المعمارى فى بغداد فى النصف الأول من القرن العشرين، وتأثره بالتغيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
تتميز الدراسة باحتوائها على عدد كبير من الخرائط النادرة، والصور المطبوعة التى التقطتها المؤلفة فى الفترة ما بين 2003، و2006 لما تبقى من المبانى التى ترجع إلى الفترة محل الدراسة فى مدينة بغداد، وهو ما يجعل من الكتاب مرجعاً غير مسبوق فى مجاله، بل ويفتح المجال لدراسات أكثر عمقاً فى ذات الإطار.
ويحتوى الكتاب على مقدمتين، أولاهما للمهندس المعمارى العراقى رفعت شاديرجى تمكن خلالها من استعراض التحولات الاجتماعية التى شهدتها تلك الفترة، فيما عرض الباحث الأكاديمى احسان فتحى من خلال المقدمة الثانية للكتاب لدور البنائين العراقيين فى تطوير الطرز المعمارية، وبراعتهم فى الدمج بين أساليب البناء التى تمتد إلى عهد الآشوريين، والطرز الحديثة.
وينقسم الكتاب إلى جزئين، يتناول أحدهما التطور التاريخى لبناء بغداد كعاصمة، حيث تمكنت المؤلفة من خلال تشريح هذه الفترة إلى عقود متتالية من استعراض تطور القوى السياسية وعلاقته بتطور المدينة نفسها، فرغبة الاحتلال الانجليزى على سبيل المثال فى فرض سلطته السياسية على العاصمة وإعطائها طابعاً مستقلاً فى الوقت نفسه انعكس فى طراز معمارى معقد نوعاً يجمع ما بين الحداثة المستوحاة من الطرز الأوروبية فى ذلك الحين والأصالة النابعة من الفنون التقليدية.
بيد أن التحولات الكبرى التى مرت بها بغداد فى فترة الثلاثينات كمركز للتجارة والبنية التحتية فضلاً عن اكتشاف البترول، وما استتبع ذلك من النزوح الجماعى من الريف الى المدينة كان له هو الآخر تأثيرة على طابعها المعمارى، وتركيبة سكانها. حيث فرض التمدد نحو الضواحى التى أصبحت مقسمة طبقاً للوضع الاجتماعى والاقتصادى قواعد جديدة فى البناء مع ظهور الشقق، وشبكات الطرق، والتخلى عن الأحواش الواسعة، فضلاً عن ظهور الحدائق الخاصة.
ومع حلول الأربعينات والتى شهدت صراعات سياسية بين الاحتلال والقوى الوطنية اتجهت اساليب المعمار نحو الفوضى بين التحديث والتغريب. حيث ظهر جيل من المعماريين الأقل ارتباطاً بالحفاظ على الأسلوب العائلى، وظهرت الواجهات الاسمنتية، والجراجات، على حساب الفناء الواسع المركزى فى المنزل، ونموذج ذلك الأحياء الواقعة على جانبى نهر دجلة، والتى تميزت بأنها متماثلى الى حد كبير ومرصوصة على الجانبين توازيها خطوط من الأشجار. بينما على الناحية الأخرى تفاقمت ظاهرة المستوطنات العشوائية على الأطراف والتى تضم أكواخاً يسكنها النازحين من الريف.
ويتناول الجزء الثانى من الدراسة اطلالة اكثر عمقاً على تقنيات العمارة البغدادية الحديثة، والذى مثلت الأحواش والواجهات جزئاً محورياً منه، واتسم بوجود الدهاليز، والممرات البسيطة، فيما بقيت الأقواس، والأعمدة المستوحاة من العمارة التقليدية كمفردة متكررة تتحدى الحداثة، فضلاً عن النوافذ الملونة، وكذا بلاطات الأرضيات.
وفيما يبدو الكتاب وكأنه دراسة اجتماعية اقتصادية معمارية، فإنه فى الوقت نفسه يمثل صرخة ترسلها المؤلفة لحماية المبانى الأثرية البغدادية، التى تعرض عدد كبير منها للدمار فى السنوات القليلة الماضية. حيث تشير سيسيليا بيرى إلى أن خطط إعادة الإعمار التى تتم حالياً فى بغداد لم تولى العناية الواجبة لهذا التراث المعمارى الرائع، والذى يبدو فى مؤخرة الإهتمام بعكس المواقع الأثرية والمقدسات الدينية.
فالمبانى الباقية من هذا التراث تبدو للكاتبة كدليل على فترة لم تلعب فيه الطائفية أو المذهبية دوراً يذكر فى تقسيم سكان بغداد، بقدر ما لعبت الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية ، وهو ما تغير الآن على نحو كبير حيث تتجه المدينة نحو التفتت الحضارى والاجتماعى الذى لا يتسم بالتسامح واحتواء التنوع، وهو المصير الذى تخشى سيسيليا بيرى منه على العواصم الأخرى فى الشرق الأوسط، والذى ترى أنها تذهب إلى ذات المصير. فالحفاظ على التراث المعمارى الراقى للمدن العربية الذى يمتد الى تلك الفترة يبدو لدى سيسيليا بيرى وكأنه رمز للحفاظ على المعانى والقيم الحضارية التى كانت سائدة فى تلك الفترة.

منشور بمجلة البيت، الاهرام، عدد مايو 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق