الأحد، 26 يوليو 2009

حقوق الأقباط "غير المستعملة"

كتبت: ناهد نصر

تأكيدات الدكتور فتحى سرور بأن الأقباط من حقهم الترشح لمنصب الرئيس جاءت فى وقتها تماماً، فجزء من مشكلة الأقباط فى مصر هى أن بعض حقوقهم الدستورية والقانونية "غير مستعملة"، صحيح أن ذلك يرجع إلى عدم ثقتهم فى النتائج، لكن المثل يقول "من لا يخطئ أبداً، لا يعمل أبداً"، لأنه لا يجرب أن يضع نفسه على المحك. تخيل مثلاً أن قبطياً واحداً على الأقل رشح نفسه مستقلاً فى كل دائرة من الدوائر الانتخابية، بدلاً من أن يلعن الأحزاب التى لا ترشح أقباطاً للبرلمان، وعلى رأسها الحزب الوطنى، وبدلاً من انتظار تغيير النظام الانتخابى إلى القوائم. وتخيل أن قبطياً رشح نفسه لانتخابات الرئاسة، بدلاً من التسليم بأن المناخ العام لا يقبل ولاية غير المسلمين. بالتأكيد ليس النجاح أو الخسارة هو المقياس، لأن الجميع إلى حين يأتى لنا الإصلاح السياسى بانتخابات نزيهة متساوون فى الهم ذاته، وإضافة هم آخر طائفى لا يعنى فقط ضغوطاً إضافية، بل وتصريحاً بالشعور بالرضا عن السلبية، فمن أين سيأتى الإصلاح السياسى إذا سلمنا جدلاً أنه لن يأتى أبداً.وجزء من الطائفية فى مصر مسئول عنها من يشتكون من وجودها، تأمل مثلاً هذا السؤال: لماذا لم يتوجه أهالى قرية الحواصلية بالمنيا بطلب للمحافظ لبناء كنيسة استناداً إلى القرار الجمهورى الذى يمنحه هذه الصلاحية، ثم إذا رفض المحافظ، فبيننا وبينه القضاء. صحيح أن وعى البشر لا تصنعه القوانين ولا القرارات، وما أكثر الأحكام القضائية التى لا تنفذ، لكن بالتأكيد التفريط فى ممارسة الحقوق تقصير. فلن يتغير الوضع القائم بالشكوى الدائمة، ولا بعرائض المطالب، بل بالتجربة والخطأ، لأن تلك هى الطريقة الوحيدة لفرض واقع مختلف. والأقباط فى مصر مطالبون بطرح أنفسهم بقوة على الساحة فى كل المجالات الممكنة، ولا يعنى ذلك الانتقاص من المشكلات التى يعانون منها، ولا التنازل عن المطالب التى تمثل حقوقهم فى المواطنة الكاملة التى هى ليست منحاً أو عطايا، ولكن من قال إنها لا تحتاج إلى عناء. الأقباط فى مصر مدعوون لممارسة المواطنة فى المساحات المتاحة، لأن ذلك هو الأسلوب الوحيد لتوسيع تلك المساحات، وجزء أصيل من المواطنة هو استخدام حقوقهم فى المشاركة السياسية مثلهم مثل غيرهم. وأمام كل عائق قد يهدد التجربة بالتعثر، سنكتشف أدوات جديدة لمواصلة الطريق، وأنصاراً جدداً ومتضامين جدداً، وعثرات جديدة أيضاً، لكننا سنكسب أراضٍ جديدة بالقانون والدستور. أما أن نحكم على التجربة بالفشل قبل أن تبدأ، وعلى أنفسنا بالعزلة، وعلى مصر بالطائفية، ونواصل لعن الظلام، فى ركن قصى، فلن نتحرك خطوة واحدة للأمام.

الجمعة، 24 يوليو 2009

أولاد الذوات غارقون فى الـ"صلصا".. والشعبيون يمتنعون

كتبت: ناهد نصر

الرقصة اللاتينية الشهيرة التى اكتسبت مذاقها الحار فى كوبا وجاذبيتها وسحرها فى شوارع نيويورك فى الستينيات، تتحول فى مصر الآن إلى "موضة" جمهورها يبدأ من الخامسة عشرة حتى الخمسين. فمن فرع وحيد لمدرسة رقص دولية فى المعادى تنتشر "الصلصا" بسرعة، لتتحول إلى برنامج دائم فى صالات الجيم والفنادق الكبرى، وفقرة فى حفلات الزواج ومراكز تدريب وليالى أسبوعية يرتادها عشاق الرقصة من الجنسين.
مايا سعيد، واحدة من المدربين المعروفين فى مجتمع الرقص اللاتينى فى مصر، بدأت حياتها مدرسة باليه، ثم لم تستطع مقاومة سحر الصلصا، تقول: "تعلمت الصلصا على يد واحد من طلابى، فى البداية بدأ الأمر كفضول نحو تعلم رقصات جديدة، لكننى بعد فترة قصيرة وجدت نفسى منجذبة تماماً نحوها لدرجة أننى سافرت للخارج خصيصاً من أجل تعلم فن الصلصا على أصوله". وتعمل مايا مدربة صلصا منذ ثمانى سنوات فى اثنين من أشهر مراكز التدريب على الرقصة، وهى لا تخفى سعادتها بالانتشار المتنامى للصلصا "الأفلام والكليبات والإنترنت ساعدت على انتشار الرقص اللاتينى عموماً، لكن الصلصا أسهلهم".
وتتركز أماكن التدريب على الصلصا فى الأحياء الراقية كالمعادى ومصر الجديدة، والمهندسين، بالإضافة إلى الفنادق الكبرى، ويتجاوز الأمر مراكز التدريب إلى صالات الجيم، حيث صارت الصلصا أحد برامج اللياقة البدنية وإنقاص الوزن فى العديد منها، وهى بالنسبة للبعض الآخر علاج للاكتئاب.
شيرين قطرى صاحبة صالة جيم تحول مؤخراً إلى أحد مراكز التدريب، تقول إنها ثبتت برنامجا خاصا للتدريب على الصلصا بناء على طلب الزبائن، "بعد أن تعلمتها عرفت سبب إقبال الناس عليها، فهى أفضل وسيلة للقضاء على الاكتئاب، أنا عن نفسى كلما شعرت بالضيق أتوجه فوراً إلى صالة الرقص.. وأديها صلصا".
لكن هذا الانتشار يزعج البعض من عشاق الرقصة. واحد من أشهر مدربين الصلصا وصاحب مركز تدريب، رفض نشر اسمه، يرى أن انتشار أماكن التدريب لا يعنى أن الجميع يرقصون الصلصا فعلاً، لأن الرقصة تحولت إلى موضة تغرى الكثيرين لدخول المجال كمدربين بصرف النظر عن خبرتهم الحقيقية، "لا يوجد فى مصر سوى أربعة مدربين محترفين فقط، والباقون يتراوح مستواهم بين الجيد والمعقول ومن لا يصلح .. ولا يوجد فى مصر مدرب واحد حاصل على شهادة فى الرقص اللاتينى فالكل هواة بما فى ذلك العروض المضحكة التى تقدم فى الأفلام والكليبات على أنها صلصا".
وبرامج التدريب التى تقدمها هذه المراكز تنقسم إلى مستويات تدريجية من المبتدئين وحتى المتخصصين. وهذه البرامج على حد قول هشام نجيب، وهو متدرب سابق يبدأ طريقه نحو عالم التدريب، تناسب الجميع، "للوهلة الأولى تبدو الرقصة صعبة، لكن الحقيقة هو أنه يمكن لأى شخص ليست لديه خلفية عن الرقص أن يتحول إلى محترف صلصا من خلال التدريب، وبمجرد اجتياز المستوى الأول تشعر أنك ترغب فى المواصلة لإتقان الرقصة حتى تتمكن من الأداء بشكل جيد فى النايتس".
والصلصا نايتس هى ليالى مخصصة لراقصى الصلصا، حيث يمكن للجميع بصرف النظر عن مدى احترافهم المشاركة فيها، والشرط الوحيد ألا تكون وحيداً حيث لا يمكنك أداء الصلصا من دون وجود شريك من الجنس الآخر. محمد سعيد مدير ليالى الصلصا فى واحد من أماكن الرقص اللاتينى الشهيرة فى المهندسين، يقول "ليالى الصلصا تكون المحك الذى يلتقى فيه محبو الرقصة ويقضون أوقات ممتعة على أنغام الموسيقى اللاتينية، وهى أيضاً فرصة عظيمة لمقارنة أدائك بأداء الآخرين ما يدفعك لمواصلة التدريب للوصول إلى الاحتراف"، وإذا كنت من محبى الصلصا فيمكنك قضاء الأسبوع متنقلاً بين ليالى الصلصا التى تقام على مدار الأسبوع فى أماكن مختلفة أغلبها تابع لمراكز التدريب.
وبعيداً عن مراكز التدريب وليالى الصلصا، تتحول الرقصة أيضاً إلى واحدة من الفقرات المحببة فى حفلات الزواج يؤديها العريس بصحبة عروسه فى ليلة الفرح، وتقول ميادة محمود، مدربة صلصا أن العرسان أصبحوا يتجهون للصلصا بديلاً عن الرقصة السلو التى كان يؤديها أغلب العرسان وذلك كنوع من التجديد، لكن رقصة العرسان التى لا تستغرق أكثر من 15 دقيقة تتطلب منهم جهداً قد يصل إلى الثلاثة أشهر "العرسان يأتون إلينا قبل الفرح بثلاثة أشهر للتدريب على الرقصة ليظهروا بشكل جميل أمام الجمهور"، وتضيف ميادة أنه بالإضافة للصلصا بعض العرسان يختارون رقصات لاتينية أخرى كالمارينجى أوالتشاتشا.
وعلى الرغم من انتشار الصلصا إلا أن جمهورها لا يزال مقصوراً على سكان الأحياء الراقية، ويقلل عشاق الصلصا من العامل الاقتصادى كسبب فى عزوف أبناء المناطق الشعبية عنها، فى رأى مايا سعيد دروس الصلصا ليست مرتفعة الثمن فهى تتراوح بين 30 إلى 50 جنيها فى الساعة وسعر المستوى الواحد يتراوح بين 280 إلى 300 جنيه، وهى لا تزيد عن ذلك إلا فى مدرسة واحدة أغلب روادها من الأجانب، وهى ترى أن عدم انتشارها فى المناطق الشعبية يرجع إلى أسباب ثقافية "الرقص اللاتينى عموماً هو رقص صالونات وهو يرتبط بثقافة مختلفة عن الثقافة الشعبية السائدة، حيث يعتمد على وجود رجل وامرأة فى حلبة الرقص معاً"، وتعترض مايا على المفاهيم الخاطئة التى قد تكون السبب فى اقتصار الرقص اللاتينى على فئات معينة "الرقص هو وسيلة للتعبير عن الذات ومن الغريب تصور أن هناك أى دوافع أخرى من وراء ذلك. مجتمعنا عدو ما يجهل، والأمر نفسه يحدث مع الباليه وفن الأوبرا".
وتتصور مايا أن الإنترنت سيكون وسيلة فعالة فى انتشار الرقص اللاتينى على نطاق أوسع فى مصر، ويتفق معها أحمد صبرى طالب الهندسة الذى وقع فى غرام الصلصا من أول حصة، فقام بإنشاء أول جروب الكترونى على الفيس بوك لراقصى الصلصا المصريين، فى محاولة على حد قوله للتواصل بين أعضاء مجتمع الصلصا "بالإضافة إلى تجميع عشاق وراقصى الصلصا فى مكان واحد، وهناك العديد من الناس الذين يعرفون الرقصة ولكنهم لا يعرفون السبيل إلى مراكز التدريب والليالى والحفلات وسوف يجدون كل هذه المعلومات على الجروب بالاضافة الى معلومات عن الرقصة نفسها"، فهل ستنقل تكنولوجيا المعلومات الصلصا إلى رقصة شعبية فى مصر بعد أن صارت موضة أولاد الذوات.

منشور فى موقع اليوم السابع

الخميس، 23 يوليو 2009

"غلاسة" الحكومة

كتبت: ناهد نصر

أنت مواطن تعيش فى حالك، تتجنب ذكر الحكومة فى أى جملة مفيدة، ولا تتكلم فى السياسة. تتجاهل مثلاً متابعة جلسات مجلس الشعب لأنك لا تصدق ما يدور بداخلها، ولأن لديك إيماناً شبه قاطع بأنها مجرد تحصيل حاصل لقرارات وقوانين لم يستشرك فيها أحد، وأنت بالكاد تتذكر شكل النائب الذى يمثل دائرتك منذ أن كانت صورته تملأ الشوارع أثناء الانتخابات، وربما لأن صورة أو اثنين من بقايا الدعاية الانتخابية مازالت ملتصقة بسور مدرسة، أو حائط منزل أو عامود كهرباء فى منطقتك.وأنت تشترى الصحيفة أحياناً، وبالتحديد خلال المباريات المهمة، وقد يخطف نظرك خبر مهم مثل عصابات خطف الأطفال، أو زوجة تقتل زوجها بالتعاون مع عشيقها، وتقول "أعوذ بالله، الدنيا ماعدتش أمان"، وتسرق خاطرك أحياناً فقرة فى أحد البرامج الحوارية على الفضائيات تتحدث عن تلوث المياه فى مركز أو مدينة بالدقهلية، أو تلوث رغيف الخبز فى قرية بالصعيد، أو مقتل فتاة مصرية بسبب الحجاب فى ألمانيا، وأنت تحاول طرد الأفكار السيئة عن رأسك، ومعها القلق والسكر والضغط. باختصار أنت مقتنع أن الطريقة التى اخترتها لحياتك هى غاية المراد من رب العباد، فلا ضرر ولا ضرار، وياحكومة "انت فى حالك وأنا فى حالى". لكنك تكتشف أنك على خطأ، وأن الحكومة لا تحب المواطن الذى فى حاله، وإلا فكيف تمارس هى دورها فى إدارة البلاد. إنها مسئولية إذا كنت لا تعلم، وأعضاء الحكومة من أكبر وزير إلى أصغر موظف فى المجلس المحلى مروراً بالمحافظ، ووكيل الوزارة، ومدير الإدارة، وحتى مأمور القسم... الخ يحبون أن يشعر المواطن بوجودهم، حتى لو كان ذلك على طريقة الصدمة الكهربائية. وهذا ليس والعياذ بالله حباً فى "العكننة" عليك، أومضايقتك، فالحكومة لا تحب "وجع الدماغ" الذى قد يسببه ذلك، لكنها فى الوقت نفسه فى رقبتها مسئوليات يا مواطن، وعليها مخططات، وبرامج، ومشاريع، وهى ليست مسئولة عن أنك لا تعرف كل هذا الكلام، أو لا تفهمه، فهذه غلطتك أنت، وليست غلطة الحكومة، وليست غلطتها أيضاً أنك أحياناً وبالصدفة (يعنى بدون عمد) تقف فى طريق هذه الخطط والمشاريع والمسئوليات، فالحكومة "مش مستقصداك".غاية ما هنالك أنك لا تستطيع وأنت فى موقعك هذا أن ترى الصورة كاملة، صورة مصر، ذات المليون كيلو متر مربع بحدودها الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية، فأنت نقطة صغيرة وسط هذه "الهلمة". وهكذا فعندما تقول لك الحكومة أن المواطن على رأس أولوياتها فعليك أن تصدقها، لأن هذا لا يعنى أنك أنت بالذات ضمن هذه الأولويات، وإنما أنت مجرد مواطن واحد ضمن حوالى 80 مليون مواطن، كلهم على رأس أولويات الحكومة.مثلاً عندما تفاجئك الحكومة بأنها قررت نقل حديقة الحيوان إلى آخر الدنيا، فبالتأكيد هى لا تقصد من وراء ذلك حرمان أولادك من مصدر البهجة الوحيد فى المناسبات الرسمية وأيام الإجازات، وعندما تقرر الحكومة إزالة منزلك هكذا فجأة لإنشاء كوبرى أو طريق، أو من دون سبب واضح، فتأكد أن هناك مصلحة ما من وراء القرار، وعندما تسمع أن الحكومة اكتشفت فجأة أن مجمع التحرير لم يعد مناسباً لأن تستخرج أوراقك الرسمية، أو أن الاتجاهات فى شارع رمسيس أو فى كورنيش النيل كانت خطأ من الأساس، أو أن هواء مولد السيدة زينب به سم قاتل، أو أن عطلة السبت فى الجامعات قرار خاطئ، وعطلة السبت فى المدارس شىء "كويس" أو أن تربية الخنازير والدجاج والبط والوز قنبلة موقوتة ستنفجر فى وجه المصريين، أو أن الجنيه الفضة أحسن من الجنيه الورقى، وأن الانتخاب الفردى أحسن من القوائم، وأن الصف السادس أفضل من الخامس، والثانوية فى سنة واحدة أفضل من الثانوية فى ثلاث سنوات، فعليك أن تفهم أن الحكومة بالتأكيد لديها هدف من وراء ذلك، وأن هذا الهدف بالتأكيد فى صالحك. فالحكومة يا مواطن لا تمارس "الغلاسة" عليك، وإنما هى تعمل من أجل الصالح العام، أما إذا كنت لا تفهم ماذا تعنى هذه العبارة، فبالتأكيد العيب فيك أنت وليس فى الحكومة.

الجمعة، 17 يوليو 2009

المصريون وأمريكا.. «بحبك بحبك. بكرهك بكرهك»

كتبت: ناهد نصر
«تعرف تقول جود نايت، وتفتح السمسونايت، وتبتسم بالدولار؟» هذه الأسئلة طرحها الأبنودى على المصريين فى قصيدته «سوق العصر» التى كتبها فى السبعينيات تعبيراً عن رعبه من الانفتاح، الذى كان يمثل على الناحية الأخرى «أمريكا».
وبعد حوالى أربعة عقود أصبحت الثقافة الأمريكية فى الشارع المصرى أكبر من السمسونايت والورق الأخضر وسجائر المارلبورو والكوكاكولا، إذ تخللت الثقافة الأمريكية كل صور الحياة تقريباً فهى فى الطعام، والشراب، وديكورات المنازل، وهى فى الموسيقى، والرقص، والسينما وفى سوق الكتب أيضاً. المصريون أثبتوا فى مجالات كثيرة قدرة على هضم هذه الثقافة وتقليدها حرفياً، بحيث تحولت إلى جزء من ثقافتهم اليومية، إلا أن الثقافة الأمريكية مازالت مع ذلك محافظة على موقعها المتناقض فى عقول المصريين، أمريكا التى يكرهونها جداً، ويحبونها جداً فى اللحظة ذاتها، أمريكا التى يقاطعونها ويهتفون ضدها على أنفاس سجائرها ورشفات قهوتها الأمريكانى.
هامبورجر يعنى "لحمة"
فى أحد الشوارع الضيقة بامبابة، مطعم صغير يضع على بوابته من الخارج لافتة حمراء مكتوب عليها «Pizza Hot» ويحمل قبعة حمراء اللون، والمطعم يقدم البيتزا بجميع الأشكال والأنواع. بالتأكيد لا علاقة لهذا المطعم بسلسلة المطاعم الأمريكية الشهيرة «Pizza Hut» فهو ليس إلا واحدا من مظاهر تأثر السوق المصرية بمطاعم الوجبات السريعة الأمريكية التى انتشرت فى كل مكان وبسرعة كبيرة. مثلاً بدأت سلسلة المطاعم الأمريكية الشهيرة، ماكدونالدز بمطعمين صغيرين فى المهندسين ومصر الجديدة عام 2004، وفى أقل من خمس سنوات، تمددت فروع السلسلة فى محافظات القاهرة والإسكندرية والأقصر وأسوان والغردقة وشرم الشيخ لتخدم 40.000 مستهلك. سبقتها سلسلة مطاعم مثل كنتاكى، وبيتزا هت، وبرجر كينج، وصب واى، ودومينوز وغيرها. فى البداية كانت تتفاعل مع ولع فئات بعينها من المصريين بشرائح الهامبورجر، والكاتشب، والبطاطس المقرمشة، تقدم فى أماكن نظيفة بيضاء على أنغام الموسيقى الأمريكية. ومع الوقت اكتشفت إدارات تلك المطاعم أن هذا الولع قد ينقلب إلى نقمة، ارتباطاً بالأحداث السياسية.
فبدأت سياسة جديدة للقفز على دعوات المقاطعة، فقد دفعت الخسائر التى لحقت بسلسلة ماكدونالدز أثناء الانتفاضة إلى ابتكار ساندويتش جديد باسم «ماك أرابيا» فى الخليج ومصر يستخدم الخبز العربى بدلاً من «الكايزر».رافقتها حملات دعاية تليفزيونية تؤكد للجمهور أن إدارة ماكدونالدز مصرية، وأن 80 % من منتجاتها تأتى من موردين مصريين، كما أنها تفتح بيوت 10.000 أسرة مصرية وتوفر فرص عمل لـ3000 عامل. لكن التأثير الأكبر ظهر فى محاولة تقليد الثقافة، وظهرت نسخ مصرية من مطاعم الوجبات السريعة على الطريقة الأمريكية، أشهرها مؤمن وكوك دور. لكن المظهر الأكثر إثارة للاهتمام هو تلك المطاعم الصغيرة فى المناطق الشعبية، وتحول الهامبورجر والبيتزا إلى أكلات شعبية تنافس الدجاج المشوى على السيخ، والكباب، والكشرى والفول والطعمية.
«كوفى شوب» وليس «قهوة»
لم يستطع مايكل الشاب الأمريكى الذى كان يدرس الموسيقى فى القاهرة فى أوائل التسعينيات، إخفاء دهشته من التغير الذى طرأ على القاهرة خلال عقدين، ويقول أنه عندما كان يسكن فى الزمالك، كان يضطر لشرب القهوة الأمريكية التى يحبها فى فندق قريب، ولم يكن هناك سوى المقاهى الشعبية التى كانت تقتصر على الشاى والقهوة التركى وباقى المشاريب المصرية. ولم تكن ظهرت أسماء مثل «كوفى بينس أند تى ليفس» و«ستاربوكس» الأمريكية فى القاهرة، ولم يعد تكفى عبارة «واحد قهوة» ليأتى لك فنجان القهوة التركى، وأصبح التفسير مطلوبا «كابتشينو، نسكافيه، اكسبرسو، أو تركى». صحيح أن معظم هذه الأسماء مستوردة أساساً من إيطاليا، إلا أنها لم تكن لتدخل إلى قاموس «المشاريب» المصرية لولا سلاسل الكوفى شوب الأمريكيةً. والتقط مستثمرون مصريون طرف الخيط ليؤسسوا سلاسلهم الخاصة على الطريقة الأمريكية.
الجينز:
لا يعرف الكثيرون أن الجينز الشهير الذى يرتدونه ليل نهار، وعلى كل الأشكال والألوان، والذى تحول من مجرد بنطلون وربما جاكت أيضاً، إلى فساتين وجيب، وحقائب، وحافظات نقود، بدأ حياته على أجساد بحارة جنوة فى القرن السادس عشر، وأن اسم الجينز نفسه مشتق من العبارة الفرنسية «blue De Genes»» نسبة إلى القماش الذى كان يصنع منه الجينز. لكنه انتشر عندما ظهر فى أفلام الكاوبوى، والأمريكان هم الذين نشروه فى العالم. وتحول مع الانفتاح إلى موضة الشباب والشابات. وهو أكبر مظاهر العلاقة المتناقضة التى تربط المصريين بأمريكا، فكل المتظاهرين احتجاجا على سياسات أمريكا يرتدون الجينز وهم يحرقون علم أمريكا، ويلعنون أمريكا.
مولود أمريكانى:
شيرين عبدالوهاب المطربة الشهيرة، أثار قرارها بولادة طفلتها فى الولايات المتحدة ضجة كبيرة، ولم تتردد عندما سألها صحفى عن السبب فى اختيار أمريكا لوضع مولودها فى القول بأن «الجنسية الأمريكية ستفتح لابنتى أبوابا كثيرة فى العالم» شيرين ليست الوحيدة التى تفكر كذلك فالفنانة إيمى وضعت مولودها بالولايات المتحدة، وكذلك الإعلامية دينا رامز وغيرهن الكثير من المشاهير.
جرين كارت الحلم:
لو خطفت رجلك إلى جاردن سيتى حيث مبنى السفارة الأمريكية سترى طوابير الواقفين خلف باب أمريكا فى انتظار الهجرة، والحصول على الجرين كارد. مجدى وليم أحد هؤلاء يقول إنه وقف فى هذا الطابور مرات دون أن يتمكن من تحقيق حلم الهجرة. وليم يحمل شهادة بكالوريوس تجارة، ولديه محل صغير للملابس فى إحدى ضواحى ميت غمر، ولا يمتلك خبرات خاصة تؤهله للمنافسة هناك، لكن العشرات ممن يقفون فى طابور السفارة لديهم جميعاً ثقة فى أن فى أمريكا متسع للجميع. وليم مثل زملائه فى الطابور، يعترض على السياسات الأمريكية، لكنه يرى أن هذه نقرة وتلك نقرة أخرى.
علاقات أمريكانى:
«عندك بوى فرند؟» هذا هو السؤال الذى يسأله البنات والأولاد لبعضهم البعض على صفحات الفيس بوك، فالبوى فرند أو الجيرل فريند أصبحا لدى الكثيرين مرحلة أساسية للتجريب، عماد طالب بالمرحلة الأولى بكلية الآداب جامعة عين شمس، يقول إن لديه «جيرل فريند» يقولها هكذا حرفياً، لماذا لا تقول حبيبة أو صديقة، يقول لأن «الجيرل فريند» مستوى مختلف فهى أكثر قليلاً من صديقة، وأقل من حبيبة «يعنى مش معنى إننا «كابل» إن إحنا هانكمل مع بعض على طول، عماد يؤكد أن صديقته تفهم ذلك، وتفكر بنفس الطريقة.
شقة أمريكان ستايل: لم يكن فريد الطبيب الشاب يضع ضمن حساباته أنه سيضطر إلى إجراء تعديلات جوهرية فى شقته لترضى زوق عروسه سحر، حيث اضطر عريسها إلى هدم الحائط الذى يفصل بين الصالة، والمطبخ، ويستبدلها بـ"بار" قصير يمكن زوجة المستقبل من تبادل الأحاديث مع ضيوفها بينما تعد لهم الشاى، أو وجبة الغذاء، فسحر كانت تحلم بشقة "امريكان ستايل". بالتأكيد ليس هذا هو المعنى الوحيد لنموذج الشقق الأمريكانى، إذ انتشرت فى أسواق الآثاث الوان مختلفة من المطابخ امريكانى، والأنتريهات الأمريكانى، إلا أن طريقة سحر فى "أمركة" شقتها هى الأرخص، والأكثر عملية بالذات فى الشقق الضيقة.
كتب أمريكانى: صحيح أن سلسلة "هارى بوتر" انجليزية الأصل، كتبتها المؤلفة البريطانية ج. ك. رولنج؛ إلا أنها لم تلق هذا الإنتشار المرعب فى السوق العالمى، والمصرى خصوصاً إلا على يد الأمريكان، حين حولتها هوليود إلى سلسلة أفلام اجتاحت دور السينما فى مصر. وفيما يشتكى الناشرون والكتاب لدينا من أن الناس لا تقرأ، تربعت سلسلة هارى بوتر على رأس الأعلى مبيعاً فى السوق المصرى فى نسختها الإنجليزية والعربية، ليتحول الزبون المصرى إلى واحد من ضمن ملايين حول العالم صعدوا بمؤلفة السلسلة إلى مصاف أغنى أغنياء الكتاب فى العالم، وكذا دار نشرها، ومنتجين افلامها
مزيكا أمريكانى:
المصريون يحبون الأغانى الأمريكية، لكن التأثر بالموسيقى الأمريكية خرج من النطاق الرسمى إلى فرق الشباب التى تجول المراكز الثقافية فى وسط البلد، حيث انتشرت فى الفترة الأخيرة بين هؤلاء ثقافة «الهيب هوب» أو «الراب» وهى نوع من الموسيقى الذى اخترعه وطوره الأفروأمريكان فى السبعينيات فى الشوارع الخلفية لنيويورك ليعبروا عن ثقافتهم الخاصة، بحيث تحول من مجرد موسيقى إلى ثقافة ترتبط بأزياء وإشارات وأداء حركى معين.
أفلام أمريكانى: كلنا تربينا على السينما الأمريكانى، وأفلام الكاوبى والأكشن، والمصارعة الحرة، وكلنا نحفظ أسماء للمثلين أوممثلات امريكان كبار نراهم منذ طفولتنا على الشاشة، ومع انتشار الفضائيات صارت هناك قنوان فضائية متخصصة ليس فقط فى عرض الأفلام الأمريكية، وانما فى عرض نسخ مترجمة من البرامج الأمريكية التى لا علاقة لها بالضرورة بأى شئ نعيشه أو نعرفه، مثلاً "أوبرا وينفرى" تماثل فى شهرتها فى مصر أشهر الاعلاميين رغم أنها لا تخاطب سوى الشعب الأمريكى، أما برامج الواقع الأمريكية فقد تحولت إلى مصدر للإثارة المتواصلة رغم أن أبطالها امريكان 100% لا يعيشون بيننا. وعلى طريقة سلاسل التيك اوى، وتوكيلات السيارات، تحولت العديد من البرامج الامريكية الى نسخ بالعربية موجهه للعرب والمصريين اشهرها من سيربح المليون، وحالياً برنامج ارض الخوف الذى يذاع على قناة الحياة وهو نسخة عن برنامج امريكى لكن ابطاله كلهم مصريين. أما فى مجال السينما فقد اتجه المخرجون وصناع الافلام من مجرد اقتباس قصص الأفلام الأمريكية إلا تقليد "الأكشن" الأمريكى بصرف النظر عن ارتباطه بالواقع المصرى، وهى الموجة التى بدأتها حالياً المخرجة ساندرا نشأت، وتلقفها عنها آخرون، وفيما تتراجع الأفلام الأمريكية من دون العرض المصرية تحل محلها أفلام مصرية لكن على الطريقة الأمريكية
وهكذا فمن الجائز أن يحكم أمريكا جورج بوش الابن أو أوباما، ومن الجائز أن تتبنى الإدارة الأمريكية العنف أو الدبلوماسية، ومن الجائز أن تحب أنت أمريكا أو تكرهها، لكن الأكيد أنك مضطر للتعامل مع أمريكا يومياً وفى كل الأوقات ودون أن تشعر أحياناً.
منشور فى جريدة اليوم السابع

الثلاثاء، 14 يوليو 2009

بأى ذنب قتلت؟

كتبت: ناهد نصر

أكثر ما أدهشنى فى حادث مقتل مروة الشربينى، هو دهشتنا من وقوعه. وذلك لا ينفى أن مقتل إنسان بلا ذنب يدفع على الشعور بالغضب والحزن، خاصة أن الجريمة تمت بدوافع عنصرية كريهة، وفى بلاد لا تتوقف عن نعتنا نحن كعرب بالانغلاق والتطرف والإرهاب. إلا أن الضجة التى أثيرت حول مقتلها شابها الكثير من الصخب والمبالغة، أحالتنى مباشرة لما تفعله التجمعات اليهودية المتطرفة حين تضخم كل ما من شأنه فى رأيهم أن يمثل "معاداة للسامية".ومقتل مروة الشربينى مناسبة جيدة، لإثارة قضية آلة العنصرية فى العالم والتى تنتج ضحايا بشكل يومى هنا وهناك، على أن مواجهة العنصرية بشكل عنصرى هو الطريقة الأسوأ فى التناول.مثلاً مشهد أحد الأشخاص وهو يزعق من فوق كتف أخيه بعبارة "القصاص القصاص" خلال جنازة مروة، تصيب بالفزع، فما طبيعة القصاص المقصود، خاصة وأنه تم إلقاء القبض على القاتل، ثم إن الحادث نفسه ارتكب خلال جلسة لمحاكمة المتهم بسبب موقفه العنصرى من الضحية، وهى القضية التى رفعتها الشرطة الألمانية أصلاً وليس مروة الشربينى أو زوجها. أما مطالبات البعض بمحاكمة دولية للقاتل بحجة عدم ثقتهم فى القضاء الألمانى، فلا يمكن التعليق عليها سوى "بلا تعليق".يصح أن نقول أن البعض يستهدف المسلمين فى الغرب، لكن أن نقول أن الغرب يستهدف المسلمين يعنى أننا لا نرى سوى ما نريد. يصح أن نقول أن هناك عنصريين فى الغرب لكن أن نتغاضى عن الكثير من العنصرية والتمييز فى مجتمعنا، يعنى أننا منافقون ونرمى بيوت الآخرين بالحصى إلى آخر المثل. يصح أن نقول أن البعض يتطرف فى مواقفه من حرية النساء فى ارتداء الحجاب، بينما ينادى بحرية الرأى والتعبير، لكن أن نتجاهل ما يمارس فى مجتمعاتنا من قمع فكرى وحصار على حرية الاعتقاد وحرية الاختيار يعنى أننا مصابون بالعمى ومرضى بالادعاء. ما الذى كان يضيرنا لو نحن استبدلنا العويل بمسيرات صامتة بالزهور والشموع على روح ضحايا العنصرية هنا وهناك، ولو استبدلنا الطنطنة والكذب على الذات بمد الأيادى البيضاء إلى الآخر فى الغرب الذى يعانى أيضاً من مساوئ العنصرية الكريهة لإثبات أننا جميعاً فى ذات الخندق المرعب الذى من شأنه أن يبتلع كل ما عاداه فى دوامة الكراهية والخراب الروحى. ما الذى يضير لو حولنا مقتل مروة إلى فرصة إيجابية لمراجعة الذات بدلاً من مواصلة الصراخ فى وجه الآخر وإدانته لتبرئة أنفسنا.لقد فشلنا بامتياز فى إجابة سؤال "بأى ذنب قتلت مروة الشربينى"، وعزاؤنا الوحيد أننا قد نتعلم فى فرصة أخرى قادمة.

الجمعة، 3 يوليو 2009

أنس الفقى وزير قوى.. فهل تقدم مصر إعلاما قويا؟!

يعرف مهارات صناعة «الميديا».. والمعرفة وحدها لا تكفى
يحاول القيادة وسط 40 ألف موظف.. و4 مليارات جنيه ديون.. وجهاز بيروقراطى.. ومنافسة لا ترحم

كتبت: ناهد نصر
المتابع لأداء وزير الإعلام المصرى منذ توليه منصبه يمكنه أن يدرك أن الرجل يعرف تمامًا سر «الطبخة الإعلامية».. الاقتراب من اهتمامات الشارع، وتشويق لا تنقصه المرونة، والقليل من الخطوط الحمراء، هذه الخلطة تحتاج إلى المال، والاستقلال، والحرية، لكن إلى أى مدى يتمتع وزير الإعلام أنس الفقى بالقوة التى تمكنه من تحقيق ذلك، وهل رجل الإعلام «القوى» هو القادر على صناعة «إعلام قوى» أم أن عوامل أخرى تحكم المشهد، خاصة إذا كان وزير الإعلام يقف على رأس أقدم جهاز إعلامى فى مصر والمنطقة العربية؟.
رجال الإعلام والخبراء يدركون أيضًا مأزق الفقى ويتعاطفون معه. فأسامة الشيخ رئيس قطاع القنوات المتخصصة، والذى أتى به الفقى من عقر دار القطاع الخاص حيث كان رئيسا لقناة دريم يعترف أن البيروقراطية وضعف الإمكانات تعوقان أى تطوير وتجعلانه بطيئا، ويشكو الشيخ من أنه كرئيس قطاع لا يستطيع اتخاذ قرار بشراء عمل جديد لأن ذلك يحتاج دورة كاملة من اللجان التى تنبثق عنها لجان، ترفعها لأخرى والمحصلة تقرير عديم الفائدة، وقواعد السوق والمنافسة لا تنتظر، ويقول الشيخ إن البيروقراطية تتجاوز سلطات الوزير نفسه، والنظام الذى يحكم التليفزيون لا يرتبط بوزير، وإطلاق العنان للتطوير قد يصبح فجأة مخالفة إدارية.
الفقى نفسه يدرك جيدا صعوبة العمل فى ظل نظام إدارى موروث منذ إنشاء جهاز التليفزيون نفسه، لكن أقصى ما يستطيع عمله هو إجراء «تباديل وتوافيق» لبعض العناصر القيادية، وخلال أقل من 6 أشهر من بداية العام أحدث الفقى انقلابا فى قيادات الإذاعة والتليفزيون بدأه فى أبريل الماضى وأجرى أكبر حركة تغييرات شهدها ماسبيرو، شملت 77 قيادة، بعضهم كان يتولى مناصب قيادية داخل أروقة ماسبيرو منذ سنوات طوال مثل سوزان حسن، ونادية حليم، وميرفت سلامة، ونهال كمال، وهالة حشيش، وعزة مصطفى، وهو أقصى ما تمكن الوزير من فعله لـ«ضخ دماء جديدة»، كما أجرى حركة تغييرات أخرى فى قطاع الإذاعة شملت 34 قيادة وبنفس الطريقة.
الوزير محكوم بجهاز إدارى لا يمكنه تجاهله، وأفراده يتمتعون بخبرات طويلة ليست خالية من الأمراض، وهى المعضلة التى يعتقد أسامة الشيخ أن حلها يكمن فى نموذج متحرر من القوانين «وهذه مسئولية الدولة» لكنه على الجانب الآخر لا يرى أن المشهد فى صالح القنوات الخاصة ويحكى أن خبرته فى دريم شابها تدخل مالك القناة لأنه ينفق، وهو تدخل تحكمه دائما اعتبارات شخصية ومزاجية فى أغلب الأحيان.
جمال الشاعر رئيس قناة النيل الثقافية يرى أن قوة الإعلام تبنى على أساس الحرية والتمويل، ويرى أن أى وزير إعلام فى مصر تواجهه مشكلتان فادحتان فضلا عن كونه جزءا من الحكومة، الأولى وجود أكثر من 40 ألف موظف يمثلون نصف تعداد دولة مثل قطر، والثانية ديون قدرت بـ4 مليارات جنيه ووصلت حاليا إلى 2 مليار جنيه.
الوزير -وبنفس طريقة التباديل والتوافيق- حاول الاقتراب من هذه المشاكل لكنه اكتشف أنها تشبه القنبلة الموقوتة، ومع أول بادرة للاستعانة بكفاءات من خارج جهاز التليفزيون وجد ثورة غير مسبوقة لعشرات العاملين بماسبيرو بين مذيعين ومخرجين وفنيين دامت عدة أيام أمام المبنى، اضطر الوزير أمامها للتبرؤ من قيادات ماسبيرو مشيرا إلى أنه لم يكن لديه أدنى فكرة عما يحدث، وأنه سيبدأ عهدا جديدا من العلاقة معهم دون وساطة، وأنه «لن يتم الاستغناء عن أى موظف بالتليفزيون».
40 ألف موظف على قوة الجهاز العظيم جعلت الوزير يتجاهل حلم التطوير ويلعب دور وزير التضامن الاجتماعى، أو وزير القوى العاملة. وأطلق الفقى سلسلة من الإجراءات لامتصاص غضب الموظفين أبرزها استبعاد سوزان حسن من ملف التطوير، وقدم وعودا منها الإعلان عن تشكيل لجنة لتأسيس نقابة للإعلاميين، ولائحة لتحسين الأجور، وصرف 2 مليون جنيه من المستحقات المتأخرة للعاملين بالقناة الرابعة، وأخيرا صندوق لتلقى الشكاوى مباشرة.
حلم الوزير فى التطوير يصطدم أيضا بأكثر من ثلاثين قناة محلية ومتخصصة، على حد قول طارق الشامى مدير مكتب قناة الحرة بالقاهرة، والذى يرى أن الفقى يحمل إرثا ثقيلاً من القنوات التى تحولت إلى مرفأ للعمالة الزائدة يلتهم الميزانية المحدودة أصلاً، ويشير إلى أن ميزانية شبكة قنوات الجزيرة سنويا تتجاوز 1.7 مليار دولار، أى 5 أضعاف ميزانية وزارة الإعلام المصرية، فى حين أن ميزانية قناة النيل للأخبار أقل من 5 ملايين دولار، والميزانية المخصصة لتطوير قطاع الإذاعة بالكامل لا تتجاوز 130 مليون جنيه، وعندما حاول الفقى الاقتراب من ملف التطوير ثار العاملون بالقنوات الإقليمية الذين اعتبروا تأخر رواتبهم مقدمة للتخلص منهم، واضطر الفقى لاتباع سياسة «إعادة الإطلاق» و«إعادة تقسيم القطاعات» فقرر إعادة إطلاق عدد من القنوات منها الأولى والثانية والفضائية المصرية والأسرة والطفل والثقافية، وضخ برامج جديدة يحظى بعضها برعاية القطاع الخاص، أما القنوات الإقليمية فلم يكن متاحا أمامه سوى دراسة تحويلها إلى قطاع منفصل استمرارا لسياسة «التباديل والتوافيق» التى اتخذها الفقى كطريق أمثل للتطوير.
طارق الشامى يرى أن طريقة الفقى لن تدفع به كثيرا للأمام، لأن الحل الحقيقى للخروج من عثرة التليفزيون المصرى برأيه لن يتم عن طريق قنوات تخرج من رحم المؤسسة الحالية، وإنما من خلال ما أسماه بمجلس إعلام تشارك به جميع الجهات السيادية، وأن تتفق على إنشاء محطة إخبارية خاصة تمول عن طريق شركة مساهمة وتخضع لإشراف التليفزيون، وهو أمر يحتاج إلى «قرار سيادى»، ومثل هذه القناة يمكن أن ترفع سقف الحرية بشكل يتجاوز نظيراتها الخاصة بما فيها العربية والجزيرة، وذلك لأن سقف الحرية فى مصر أعلى منه فى السعودية وقطر.
تدعم هذا الرأى خبرات سابقة مر بها التليفزيون المصرى، ونجح فى الاختبار، وهو ما أكده الدكتور عبد الله شيليفر أستاذ الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية، والمدير السابق لمكتب «إن. بى. سى» بالقاهرة، ومستشار قناة العربية، حيث يرى أن التليفزيون المصرى بدأ يتطور كثيرا فى السنوات العشر الأخيرة بفعل المنافسة مع القنوات الخاصة، خاصة فى مجال البرامج الإخبارية، والحوارية، وأصبح هناك غرفة أخبار، وطواقم محترفة ومراسلون فى الخارج، ويرى شيليفر أن قيادات التليفزيون المصرى لا تنقصها الكفاءة لكن تنقصها الجرأة، وعندما تجد أن هناك نموذجا تم تطبيقه بالفعل، ولا يحتوى على أى قدر من المخاطرة فإنهم ينفذونه باحترافية، ويتذكر شليفر أن صفوت الشريف حين كان وزيرا للإعلام وقبل أن تنتشر الأطباق الفضائية تعامل بقدر كبير من المرونة مع إنشاء شبكة الفضائيات المصرية كأول نموذج من نوعه فى العالم العربى، ويرى أن التليفزيون المصرى لو تخلص من العوائق البيروقراطية، وتحول إلى جهاز مستقل إداريا عن سلطة الدولة مثل نموذج الـ«بى. بى. سى» والجزيرة سيعود مرة أخرى إلى موقعه فى مقدمة الصف الإعلامى فى المنطقة.
الريادة التى أصبحت عبارة مثيرة للتهكم لدى وسائل الإعلام من كثرة ترديدها، واستبدلها الفقى بشعار «تطوير جودة المنتج النهائى» يراها أمين بسيونى رئيس شركة النايل سات مازالت صالحة للاستخدام، فالشركة تضم حوالى 450 قناة فضائية تغذى المنطقة كلها، فضلاً عن مدينة الإنتاج الإعلامى، يمكن للوزير الحديث عن التطوير والجودة دون أن يتعارض ذلك مع إنجازات السابقين عليه.
أنس الفقى يدرك أيضا أهمية إنجاز بحجم النايل سات ومدينة الإنتاج الإعلامى، بل ينظر نظرة لا تخلو من الغيرة للقنوات الخاصة لأنها تحقق جزءا من المعادلة التى يحاول تطبيقها فى التليفزيون المصرى، فهى تخلصت من البيروقراطية، وتحظى بتمويل كبير، وجرأة نسبية، وقدرة على الإبهار، إلا أن ما ينقص هذه الخلطة التى أثبتت نجاحا حتى الآن فى جذب الجمهور هو وجود سلطة الضبط والربط، ويحلو للفقى أن يطلق عليه «التنظيم»، وهو ما دعاه لعقد اجتماع استثنائى العام الماضى لوزراء الإعلام العرب لوضع وثيقة تنظيم الفضائيات، وخلال الضجة التى أثارتها الوثيقة فضل الفقى اللعب على وتر الفضيلة وأخلاق المجتمع، وانتقد الفضائيات التى تخدش الحياء، وتفتح مجال الفتوى لمن لا علم لهم، إلا أن الهدف الحقيقى للوزير والذى عبر عنه فى أكثر من موضع كان محاولة تطبيق نموذج إعلام اقتصادى له جماهيرية تدر أرباحا وإعلانات، دون أن تفقد الدولة المصرية امتيازاتها المالية كونها صاحبة القمر الصناعى، وفى ظل منافسة شديدة وغير محسوب حسابها، فهو يعترف بأن «حجم صناعة الإعلام فى مصر أقل من مليار جنيه، فيما نستطيع أن نصل إلى خمسة أضعاف هذا فى غضون سنوات قليلة، ولكن بناء على ضوابط، وأسس، تنظم هذا القطاع».

موقف الوزير فى معركة تنظيم الفضائيات كشف عن الرؤية الحقيقية لوزير الإعلام الذى يرى أن الوضع بالنسبة للفضائيات وصل إلى حد الفوضى، حيث «أقمار مش عارفين اسمها بتطلع من أماكن غريبة جدا، غير ناس بتروح تؤجر حيزا فى أوروبا وتأخذ قنوات وتنزلها، غير ظواهر زمان ماكنش فيه مناطق حرة، ماكنش فيه عملية بث وإعادة استقبال وإعادة بث، ماكنش فيه فك شفرة، صناعة الإعلام تطورت جدا وتحتاج إلى تنظيم» ويبرر الوزير اهتمامه بهذا الجانب بأنه مسئول عن إنجاح القنوات الفضائية أيضا لأنها تجذب المزيد منها ولا يوجد صراع بين الاثنين، وهذا هو الملعب الذى يجد الفقى نفسه فيه أكثر قدرة على الفعل. والعبارة الأخيرة تلخص كيف يرى وزير الإعلام المصرى صناعة الإعلام القوى، فهى لا تحتاج فقط إلى شخص يمتلك الرؤية الصحيحة، وإنما إلى ظروف تدعم هذه الرؤية، تعتمد على الاستقلال النسبى، وحرية الحركة، والدعم المادى فى إطار من التنظيم الذى يضع الأمور فى نصابها، دون أن يجنح إلى التقييد.
منشورة فى جريدة اليوم السابع