الأحد، 28 سبتمبر 2008

حريق المسرح القومى .. فى عنق المثقفين

كتبت: ناهد نصر

فى مثل هذا الشهر منذ ثلاث سنوات فجعت مصر فى اثنين وثلاثين من أبنائها وأكثر بين مبدع وعاشق للفن، بينما كانوا مجتمعين فى قصر ثقافة بنى سويف يتابعون واحدة من فعاليات مهرجان نوادى المسرح. ومن لم يمت بالنيران فى حريق قصر الثقافة مات دهساً تحت الأقدام، أو بسبب الإهمال الطبى. ساعتها قامت قائمة المثقفين مخضرمين وشباناً من هول الصدمة ومن فداحة الخسارة. فقد غيبت النيران أسماء كبيرة بحجم محسن مصيلحى وبهاء الميرغنى وحازم شحادة ومدحت أبو بكر وصالح سعد، كما التهمت شباباً فى عمر الزهور، كان الفن حلمهم الوحيد وحياتهم. وقتها تشكلت اللجان، وعلا صوت الاحتجاجات، وأضيئت الشموع، وانطلقت المسيرات الصامتة والصاخبة، وعم السواد والغضب المشهد الثقافى المصرى. وانتقلت النيران من القاعة المغلقة هناك فى الصعيد إلى عقول وقلوب العاملين بالحقل الثقافى الذين دفعهم الحريق إلى فتح ملفات ثقيلة من الإهمال والفساد والمحسوبية التى ترعاها وزارة الثقافة والتى ظلت جاسمة على قلوبهم وقلوبنا لسنوات طويلة. غضبة المثقفين النادرة آنذاك أجبرت وزير الثقافة على تقديم استقالته، وعلى الرغم من أن مشروع الاستقالة لم يكتب له الاكتمال، وعلى الرغم من أن بعضاً من أعضاء الحقل الثقافى آثروا السلامة ووقعوا بياناً يطالبون فيه الوزير "الحبيب" بعدم الاستقالة، إلا أن الأمل كان لا يزال باقياً فى أن يواصل المثقفون الطريق الذى بدأوه فى سبتمبر 2005، وأن يخف وهج الغضب ليحل محله أشكال من العمل الجماعى الواعى والمنظم لتصحيح الأوضاع المقلوبة، سواء بقى الوزير أو لم يبق.إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، لتمر أسابيع ثم شهور فسنوات، ولا يبقى من وجه حريق قصر ثقافة بنى سويف سوى احتفالية التأبين التى تقام كل عام فى مثل هذا الشهر ذراً للرماد فى العيون. بينما الحياة تسير وكذا وزارة الثقافة، بكل مهرجاناتها ومعارضها واحتفالياتها دون أن يعكر صفوها أحد. كما لا يزال الإهمال والفساد سيد الموقف فى كل ما ترعاه وزارة الثقافة من مؤسسات وهيئات فى أنحاء الجمهورية. ولا يعلم أحد أين ذهبت مثلاً "حركة أدباء وفنانون وكتاب من أجل التغيير" وغيرها من الحركات التى انطلقت إبان المحرقة ثم اختفت وكأنها لم تكن. ولا يعلم أحد السبب فى أن مثقفى مصر الذين واتتهم فرصة نادرة لفتح ملفات قصور الثقافة ومسارح الجامعات وفروع اتحاد الكتاب والثقافة الجماهيرية التى لا ينالها سوى الفتات، وملفات الفساد الإدارى والمحسوبية التى لا يستثنى منها سوى قلة قليلة من المسئولين عن هيئات الوزارة فى العاصمة والأقاليم على حد سواء.ليفاجئنا "القضاء والقدر" بحريق جديد فى المسرح القومى، والذى وإن لم يتسبب فى خسائر فى الأرواح، إلا أنه يعد خسارة لصرح تاريخى من صروح الثقافة المصرية منذ افتتاحه فى العام 1921. السيناريو المتوقع للتعامل مع الكارثة الأخيرة مكرر لحد الملل، لكن الكارثة الحقيقية تكمن فى أن المسرح القومى لن يكون الضحية الأخيرة لصمت المثقفين.

الجمعة، 19 سبتمبر 2008

الوساطة الغائبة

كتبت: ناهد نصر
يشعر المرء بالأسى حين يتابع أخبار المفاوضات التى يقودها نقيب الصحفيين للتوسط بين شيخ الأزهر واثنين من الصحفيين للتنازل عن قضية السب والقذف التى رفعها ضدهما، فالنقيب يرى أن استمرار القضية يهدد بتكريس حبس الصحفيين فى قضايا نشر، وشيخ الأزهر يعتقد أن كرامته التى رأى أنها أهينت بسبب ما نشرته جريدة الفجر لا تسمح له بالتنازل عن القضية، وأنه "على العدل أن يأخذ مجراه". نقيب الصحفيين معذور لأن القانون 96 لسنة 1996 يبيح حبس الصحفيين، ولم تفلح المطالبات المتكررة للصحفيين بإلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر، ليصبح تفعيل المواد التى تقضى بالحبس مرهونة بتقدير وكرم أخلاق السلطة القضائية التى يشهد لها أنها تمهلت فى استخدامها طوال السنوات الماضية، إلا فى حالات نادرة ولأسباب سياسية. والمشكلة هذه المرة أن صاحب الدعوة القضائية شخصية عامة، الأمر الذى يجعل عقوبة الحبس أحد الاحتمالات الواردة بقوة، وهو ما أثار قلق الأسرة الصحفية كلها وعلى رأسها النقيب.لكن شيخ الأزهر معذور أيضاً، فميثاق الشرف الصحفى الذى يؤكد النقيب أنه كفيل بضبط أداء الصحافة والصحفيين، لم يحدث أن تم اللجوء إليه إلا فى حالات نادرة ينحصر أغلبها فى اتهام أحدهم بالتطبيع، وأشك فى أن شيخ الأزهر قد تنامى إلى علمه أن بنود هذا الميثاق تضمن (إن تم تفعيلها) حماية أخلاقيات المهنة مما لا يليق بها، وإلا لتوجه إلى النقابة بدلاً من التوجه لساحات القضاء.وتلك هى المشكلة التى تتجاوز قضية شيخ الأزهر، لتمتد إلى الكيان الصحفى ككل بصحفه وصحفييه. فالمستقبل القريب ينبئ بالمزيد من القيود على حرية النشر بصرف النظر عن الدعاية الحكومية التى قد تشى بعكس ذلك. إذ من المتوقع أن يعرض فى الدورة البرلمانية القادمة أو التى تليها فى أحسن الأحوال مشروع قانون الإفصاح وتداول المعلومات. ومواد هذا القانون لو تم إقراره تتضمن قيوداً إضافية على حرية تداول المعلومات على عكس ما يوحى به عنوان المشروع.ومن بين هذه المواد طبقاً للنسخة التى تم تسريبها للصحف منذ أشهر مادة تقضى بإلزام الجهات المخاطبة بالقانون تقديم كيفية الحصول على البيان أو المعلومة عند الطلب. وهو ما يتعارض مع المادة السابعة من القانون 96 لسنة 1996 والتى تنص على أنه لا يجوز أن يكون الرأى الذى يصدر عن الصحفى أو المعلومات الصحيحة التى ينشرها سببا للمساس بأمنه، كما لا يجوز إجباره على إفشاء مصادر معلوماته.وهذا بالتأكيد ليس المؤشر الوحيد على ما يحمله المستقبل من إجراءات تستهدف "فلترة" والتضييق على حرية النشر، سواء بسبب القانون المزمع أو بغيره. فتوجه الدولة وقوانينها لا تسير فى اتجاه حرية الصحافة وحماية الصحفيين. وعلى الناحية الأخرى فإن الصحافة كغيرها من المهن تتضمن الصالح والطالح، كما تحتمل الخطأ والصواب.وإزاء ذلك تتعاظم أهمية الدور الذى ينبغى أن تلعبه نقابة الصحفيين، ومن بين أولويات هذا الدور، تفعيل ميثاق الشرف الصحفى بحيث يتحول من مجرد وثيقة إلى إطار يحكم علاقة الصحفيين بالهيئات والمؤسسات والأفراد، ويضبط الأداء ويعزز الثقة بدور النقابة. فليس من اللائق ولا المنطقى أن يتفضل السيد نقيب الصحفيين مشكوراً بالتوسط لصالح الصحفيين لدى كل جهة وكل فرد يلجأ للقضاء فى قضية نشر، وإنما من الأولى أن يتوجه المختصمون مع صحفى أو صحيفة إلى النقابة واثقين من أنها ستضمن حقوقهم، بينما لا تجور على حق الصحفى. ومن المؤكد أن قوة النقابة وفاعلية ميثاقها سيوفر جهود الوساطة التى يضطلع بها سيادة النقيب إلى وساطة من نوع آخر من أجل تحريك الوعد الرئاسى بإلغاء عقوبة حبس الصحفيين، وإتاحة حرية التعبير والنشر وتداول المعلومات بلا قيود.

الجمعة، 12 سبتمبر 2008

مصر بلا قلب

كتبت: ناهد نصر
واحدة من سمات العهد الذى نحظى بالعيش فى ظله أنه مع تكرار الكوارث يفقد الناس القدرة تدريجياً على الاندهاش، ثم التعاطف حتى يتحول الإحساس إلى نوع من الترف. لقد حولنا النظام إلى شعب بلا إحساس من أعلى إلى أسفل والعكس صحيح. وهو أمر من فرط قسوته يبعث على الضحك. انظر مثلاً إلى أعلى حيث رئيس الوزراء فى تصريح له تناقلته وكالات الأنباء العالمية بعد كارثة الدويقة، حين قال إن ضحايا الصخرة العملاقة "لم يواتهم القدر حتى يتسلموا الشقق الجديدة" وهو اتهام ضمنى للقدر بأنه سبب الكارثة. ثم وجه نظرك إلى أسفل، وبالتحديد أسفل هضبة المقطم حيث مخيمات الإيواء المخصصة لضحايا الكارثة والتى هرع إليها وبشهادة الضحايا سكان المناطق المجاورة الذين لم توافهم الصخور بعد، أملاً فى الحصول على شقة جديدة، وخشية أن ينالهم ما نال جيرانهم، بينما الضحايا مشغولون بنبش التراب بحثاً عن أشلاء ذويهم. وفى المنتصف أى فى المسافة ما بين الأعلى والأسفل توقف عند جنود الأمن المركزى حول المنطقة المنكوبة، بينما يضربون الآباء والأمهات والإخوة والأخوات بالعصى حتى لا يقتربوا من أنقاض منازلهم، ثم لا تشغل رأسك كثيراً بالبحث عن السبب. ولا تسأل أسئلة ساذجة من نوع، أى تبرير سخيف هذا الذى يصدر عن مسئول بحجم رئيس وزراء؟ أو أى قسوة تلك التى تجعل الفقراء يتجاهلون مصيبة إخوانهم الفقراء أيضاً فيسطون على حقهم فى خيمة إيواء بدلاً من التفكير فى تقديم الدعم لهم؟ فإذا كان المسئول الكبير يبرر جريمة صنعتها حكومته وحكومات كثيرة سبقته فى حق المواطنين، فكيف تتوقع أن يكون سلوك المواطنين تجاه بعضهم البعض. وإذا كانت الدولة غير قادرة وغير مهتمة بدعم مواطنيها على العيش بأمان وكرامة فماذا تنتظر من المحرومين تجاه غيرهم. والسؤال الأهم هو إلى أين تأخذنا تلك التحولات التى طرأت على نفسية المصريين، وعلى سلوكهم وعلى إحساسهم بأنفسهم وبالآخرين، وما السبيل نحو اختراق طبقات فوق طبقات من الجدران العازلة التى تحاصرنا منذ الخمسينات. أزعم أن مصر بحاجة إلى نظام يتمتع بالإحساس حتى يعيد لها القلب.