السبت، 9 أغسطس 2008

برنامج أمريكانى

كتبت: ناهد نصر

برنامج مسابقات أمريكى يذاع على إحدى الفضائيات، تعتمد فكرته الأساسية على قول الصراحة، فالضيف المشارك مضطر للإجابة على مجموعة من الأسئلة الشخصية، بينما جهاز لكشف الكذب يرصد أداءه، وكلما علق الجهاز بأن "الإجابة صحيحة" كسب المتسابق مزيداً من الأموال يخسرها كلها مع أول "كذبة"، وفى الخلفية يحضر بعض أفراد عائلته وأصدقائه ليستمعوا إلى إجاباته الصريحة جداً ربما للمرة الأولى فى حياتهم. فكرة البرنامج تنتمى لتليفزيون الواقع الذى يحظى بجدل واسع، فالبعض يعترضون أخلاقياً على أن الناس من أجل كسب المال يكشفون أنفسهم على الملأ، وأن المشاهدين يتسلون بذلك. وإذا كان ثمة ميزة فهى أن بعض هذه البرامج يعكس بالفعل واقع المجتمع، خصوصاً إذا كان منفتحاً وصادقاً مع نفسه وقليل الادعاء، وأعنى المجتمع. البرنامج اسمه "the moment of truth" أو لحظة الحقيقة، فى إحدى حلقاته جلس على "كرسى الاعتراف" شاب يعمل فى الإسعاف، وقد اصطحب معه صديقته يهودية الديانة، ووالديه وهما من أتباع الطائفة المرمونية، وهى من الأقليات الدينية التى لا يتجاوز عدد أتباعها 12 مليون شخص فى العالم، ويعتبرون أنفسهم جزءا من الديانة المسيحية، لكن الكنائس المسيحية الثلاث لا تعتبرهم كذلك. سئل الشاب "هل تشعر بالعار كونك تنتمى للطائفة المرمونية؟" فأجاب بنعم وفوجئ الأهل والجمهور ليس لشعوره بالعار، ولكن لأنه اعترف بهذا الشعور الذى يعكس وضع الأقليات الدينية فى مجتمع منفتح ومتنوع كالولايات المتحدة، وسئل "هل يكره والداك صديقتك لأنها يهودية؟" فأجاب بنعم ثانية، ولم تفلح تبريراته بأن الأسرة ترغب فى امتداد مرمونى للعائلة فى التخفيف من صدمة الصديقة والوالدين والجمهور. ثم "هل أنت مقتنع بأن الشخص البدين ضعيف" فأجاب بنعم ومضى يشرح بلهجة متعاطفة، كيف أنه يضطر يومياً لحمل أشخاص ثقيلى الوزن ويتساءل لماذا يفعلون ذلك بأنفسهم. غير أن كل تبريراته المتعاطفة ذابت تماماً حين خرجت من خلف الكواليس فتاة شديدة البدانة لتسأله "هل تشعر بالقرف من البدناء" ولم يكن هناك مفر من الإجابة بنعم حتى لا يخسر السباق، وليكتشف الجمهور أنه يكن مشاعر عنصرية تجاه البدناء. ثم "هل حدث فى أى مرة أن امتدت يدك إلى ما هو أبعد من المفروض فى جسد امرأة تسعفها" قال لا بينما احتد تصفيق الجمهور. "بوصفك مسعف، لو كانت حياة أسامة بن لادن تتوقف على مساعدتك، هل تنقذ حياته" أجاب بالنفى "أتركه يموت"، فأخلاقيات المهنة لم تشفع لبن لادن لدى المسعف الشاب. توالت الأسئلة فى الحلقة وفى رأسى أيضاً وتوالت الإجابات الصادمة، وتخيلت النسخة العربية من البرنامج، إذ ما حدود ما يمكن أن يعترف به شاب عربى على هذا الكرسى نفسه، بل ما حدود ما يمكن أن يطرحه مذيع عربى، وما يمكن أن يتقبله جمهور عربى فى تليفزيون عربى؟ قد يتلذذ البعض منا من متابعة "فضائح المجتمع الأمريكى" على الشاشة ولسان حاله يتشفى فيما آل إليه الغرب الذى يدعى الليبرالية والتقدمية واحترام حقوق الإنسان، بينما هو غارق فى العنصرية من رأسه إلى أخمص قدميه. البعض أيضاً قد يصاب بالصدمة من اكتشاف أن "النموذج الغربى" ليس مثالياً كما ينبغى أو على الأقل كما يتمنى. لكن كلا الطرفان يتجاهلان النظر إلى زاوية هامة، وهى قدرة هؤلاء على الاعتراف الذى لا نستطيع إليه سبيلا، وقدرة هؤلاء على التمييز بينما نحن لا نزال نعيش دوامة من خلط المفاهيم واختلاط المرجعيات. إذ ليس الهدف أن يتحول أفراد المجتمع إلى مجموعة من الملائكة، بل إن تتحول القيم الإنسانية إلى ثوابت راسخة فى الوجدان والإدراك، ثم نقترب منها أو نبتعد، لكننا نحتكم إليها فى آخر المطاف ونقيم على أساسها أنفسنا. فوحدها القيم الإنسانية هى المرجعية التى ينبغى أن يقاس على أساسها مدى انفتاح وتقدمية والأهم "إنسانية" المجتمعات.